الغرض من هذه الصفحة هونشر المعلومات والمناقشة العلمية للمهتمين بالصحة العامة في مصر وصلتها بالتنمية البشرية والعدالة الاجتماعية. وعند القيام بذلك، تلتزم هذه الصفحة أن تتخذ موقفا محايدا وتعرض وجهات النظر كافة على قدم المساواة. الاعمال المقدمة في هذه المدونة تم تقديمها بناء علي أراء عدة خبراء في مجالاتهم.

الاثنين، 23 يناير 2012

العوامل العامة المساعدة فى الانتقال إلى التغطية الشاملة بالتأمين الصحى الاجتماعى

طريق مصر نحو تأمين صحى اجتماعى –  5

ما هى العوامل التى يمكن أن تساعد فى تحقيق تغطية شاملة بنظام تأمين صحى اجتماعى فى مصر؟ سوف نحاول الإجابة على هذا السؤال فى ظل خبرات وتجارب الدول الأخرى وآراء مجموعة من الخبراء المتخصصين. ومن ناحية المبدأ, فكلما قَل نصيب الدخل السنوى للفرد فى بلد ما, وانكمش حجم القطاع الرسمى, وزاد معدل الفقر, وارتفع معدل الإعالة, كلما أصبحت عملية توسيع مظلة التغطية بخدمات التأمين الصحى الاجتماعى أكثر صعوبة.

التنمية الاقتصادية - من حيث مستوى الدخل الإجمالى السنوى للدولة ومعدل النمو

كلما نما نصيب الفرد من الدخل, كلما نتج ذلك زيادة في قدرة الشركات والمواطنين على المساهمة فى تمويل نظام التأمين الصحى الاجتماعى. وبالمثل, كلما زادت الرواتب والأجور التى يتقاضاها المواطنون, كلما سنحت الفرصة لتمويل حزمة أوسع من الخدمات وكلما ساهم ذلك أيضا فى تخفيف العبء الاقتصادى المتمثل فى ضريبة الرواتب. ومن المتوقع فى مثل هذه الحالة أن ترتفع العوائد الضريبية والتى سوف تدعم بدورها عملية توجيه أى دعم حكومى إلى نظام التأمين الصحى الاجتماعى. من هنا يتضح لنا أن النمو الاقتصادى المطّرد من المرجح أن يساعد فى النهوض بقدرة المجتمع على تمويل نظام التأمين الصحي.

فى عام 2010, قبل قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير, قُدر متوسط الدخل الإجمالى للفرد بـــ 2440 دولار أمريكى, وتراوح معدل النمو الاقتصادى السنوى بين 5 - 7%. وفى ظل تباطؤ النشاط الاقتصادى الذى شهدته مصر بعد الثورة, فمن المتوقع أن ينخفض معدل النمو الاقتصادى إلى 2% أو أقل خلال 2011. ويعتبر معدل الدخل الإجمالى الحالى لمصر أشبه بمعدلات الدول التى تتبنى نظام التأمين الصحى الاجتماعى حين بدأت العمل به منذ زمن بعيد, مثل ألمانيا (2237 دولار فى 1883) والنمسا (2420 دولار فى 1887) وبلجيكا (1808 دولار فى 1851) واليابان (2140 دولار فى 1922). وينطبق هذا أيضا على معدل النمو الاقتصادى, والذى تنوع بين الارتفاع وأحيانا الاستقرار خلال الفترات الانتقالية التى مرت بها هذه الدول. 

الهيكل الاقتصادى - من حيث الحجم النسبى للاقتصاد الرسمى وغير الرسمى

يواجه العديد من الدول النامية بعض العقبات فى عملية تقييم الدخول المادية وجمع المساهمات اللازمة نظرا لكبر حجم العمالة غير الرسمية فى تلك الدول, الأمر الذى قد يعوق إمكانية تغطية العاملين فى القطاع غير الرسمى, على اعتبار أن نظام التأمين يعتمد فى الأساس على المساهمات. وبالتالى, كلما كبر حجم القطاع الرسمى, كلما تيسرت عملية جمع ضريبة الرواتب المنصوص عليها من العاملين وأرباب العمل. 

وعلى المستوى القومى, تشير الإحصائيات إلى أن حجم العمالة غير الرسمية آخذ فى التصاعد لسببين رئيسيين:

1)     اعتماد القطاع العام بشكل كبير على الاستعانة بالمتعاقدين المؤقتين بدلا من العمالة الرسمية الدائمة.
    2) توافر معظم فرص العمل فى القطاع الخاص (غير الرسمى) والذى يضم أكثر من نصف حجم العمالة (53%), بنسبة ارتفاع تقدر بـــ20% عن مستويات ما قبل الثورة. 

وإذا ما دققنا النظر فى الصورة عن قرب, سوف نجد أن 58% من العاملين المصريين خارج نطاق أى نظام حماية اجتماعية, و63% يعملون دون عقود, و13% يعملون دون أجور. وحيث أن القطاع العام -الذى يُنظر إليه على أنه جهة عمل "أكثر أمانا"- مستمر فى التقلص, إضافة إلى عدم قدرة القطاع الخاص على توفير فرص عمل ذات طابع رسمى, يصير الطريق أمام تحقيق التغطية الشاملة بنظام تأمين صحى ملىئ بالتحديات.

التحضر\التمدن - ويتم تحديده بناء على توزيع السكان المستهدفون من التغطية

بشكل عام, تسهل تغطية سكان الحضر الذين يعيشون فى ظل كثافة سكانية عالية ويتمتعون بالحد الأدنى من البنية التحتية ووسائل الاتصالات عن سكان المناطق الريفية المنتشرون على نطاق واسع. وتشكل الرقعة الحضرية فى مصر حوالى 43%, يبرز من بينها محافظات حضرية بنسبة 100% مثل القاهرة, وأخرى تصل إلى حوالى 22.5% فقط مثل الشرقية. وكلما كانت المحافظات أكثر تحضرا, كلما نما عدد السكان المؤَّمن عليهم.


القدرة على الإدارة - من حيث توافر عمالة مؤهلة للقيام بأعمال الحسابات والخدمات المصرفية ومعالجة البيانات؛ إضافة إلى الأسواق ذات الصلة مثل الخدمات المالية وجهات التأمين الأخرى التى من الممكن أن تعمل على توفير أيدٍ عاملة مدربة بجانب الخدمات الاكتوارية والقانونية. ومما لا شك فيه أن الإدارة الجيدة لنظام الأمن الاجتماعى تمثل أحد العوامل أهم فى هذا الصدد.

وبالرغم من إنشاء الهيئة العامة للتأمين الصحى منذ ما يقرب من نصف قرن, نلاحظ أن معظم خبراتها برتكز علي تقديم الخدمة, إضافة إلى أنها بمرور الوقت قد خسرت العديد من الخبراء الذين لم يتم تأهيل آخرين في مجال شراء الخدمات الصحية. من هنا, يستلزم هذا الوضع بذل المزيد من الجهود والاستثمارات لتحسين وظائف الهيئة العامة للتأمين الصحى فيما يتعلق بإدارة عملية تمويلو شراء الخدمات الصحية – هذا إذا ما أرادت مصر الاستمرار فى تبنى نظام التأمين الصحى كخطة تمويلية لتحقيق التغطية الشاملة.

انتشار الفقر - من حيث حجم المساهمة الحكومية فى دعم اشتراكات ومساهمات الفقراء   

كلما ارتفع معدل انتشار الفقر بين المواطنين, كلما كان هناك احتياج إلى دعم اشتراكات هذه الفئات من جانب الحكومة, مما سيساهم فى زيادة الأعباء الملقاة على كاهل الميزانية العامة للدولة. ومن ثم, سوف يحتاج المجتمع بكامله, وليس الحكومة فقط, إلى وضع تعريف واضح لمستوى التضامن الذى ينوى المشاركة به من أجل دعم الخدمات المقدمة للفقراء, وما إذا كانت تلك الخدمات سوف يتم دعمها بشكل كلى أو جزئى للفئات التى تقف على حافة الفقر. وكلما ارتقى مستوى التضامن المجتمعى, كلما كان نظام التأمين أقدر على توفير الحماية المالية للشرائح الأكثر ضعفا (المهمشة) بالمجتمع. وبالرغم من قدرة الحكومة على فرض نظام للتضامن, إلا أنه من الأرجح ألا تؤتى هذه النوعية من التضامن الاجباري ثمارها فى دعم استمرارية نظام التأمين طالما لم يقتنع المجتمع بالأهمية المحورية لعامل التضامن الاجتماعى.

يبقى هناك عاملين مهمين لابد من وضعهما فى عين الاعتبار:

1) توافر شبكات تقديم خدمة جيدة وفعالة من حيث:

      أ) القدرة على تمهيد الطريق أمام المساهمين للوصول إلى الخدمة دون أى عوائق؛  
      ب) القدرة على توفير مجموعة كافية من مقدمى الخدمة بشكل يدعم خيارات المساهمين؛
      جــ) القدرة على خلق المناخ الذى يدعم روح التنافس الشريف والخلاق بين مقدمى الخدمة.

2) قدرة الحكومة على مراقبة الجودة وإدارة إجراءات الشكاوى والتظلمات

الخلاصة: تعتمد مقدرة مصر على تحقيق التغطية الشاملة من خلال التأمين الصحى الاجتماعى على:

 1) قدرتها على التعافى من الهزات الارتدادية التى تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير, واستعادتها لمعدلات النمو العالية التى سبقت الثورة, بجانب النهوض بمستوى الدخل الإجمالى القومى؛
2) قدرتها على خلق فرص تشغيل يتوافر فيها عامل الحماية من خلال ترسيخ ودعم أسس القطاع الرسمى؛
3) قدرتها على توسيع حدود المناطق الحضرية؛
4) قدرتها على مأسسة نظام فعال لإدارة التأمين الصحى؛
5) مستوى الفقر وإرادة المجتمع تجاه دعم الخدمات المقدمة للفقراء؛
6) امتلاك شبكة واسعة وجيدة لتقديم الخدمات؛
7) القدرة على التنظيم.


ولنا حديث آخر...



هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 4 نوفمبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.




الخميس، 5 يناير 2012

توسيع نطاق التغطية الشاملة من خلال التأمين الصحى الاجتماعى

طريق مصر نحو تأمين صحى اجتماعى – 4

تناولنا فى الطريق الأول من هذه الرحلة الجانب التاريخى للتأمين الصحى الاجتماعى فى مصر, وألقينا بعض الضوء على أداء هذا النظام منذ نشأته حتى وقتنا الحالى. وفى الطريق الثانى تعرضنا لتجارب بعض الدول التى حققت تغطية شاملة لمواطنيها بخدمات التأمين الصحى, مع التركيز على عامل الفترة الزمنية التى استغرقتها كل دولة. وخلال الطريق الثالث قمنا بإلقاء نظرة تحليلية على التغطية الشاملة فى مصر باستخدام الأبعاد القياسية المتمثلة فى اتساع التغطية وعمقها وارتفاعها. وسوف نتطرق اليوم إلى الحديث بشئ من التفصيل حول عامل "اتساع التغطية الشاملة" بالخدمات الصحية.
يمكن تمويل عملية التغطية الشاملة من خلال العديد من الوسائل, التى يبرز من بينها: 1) نظام إيرادات الضرائب العامة 2) ونظام التأمين الصحى الاجتماعى. فى النظام الأول سوف يتم تقديم الخدمات عن طريق شبكة من المؤسسات الصحية العامة, وأحيانا الخاصة؛ وهو ما يشار إليه غالبا بالخدمات الصحية القومية]. وأشهر البلدان التى تتبنى هذا النظام هى المملكة المتحدة. وسوف نركز فى حديثنا على التغطية الشاملة باستخدام التأمين الصحى الاجتماعى.
عادة ما يعتمد التأمين الصحى الاجتماعى على مساهمات المنتفعين؛ وحتى يُكتب له النجاح, لابد من إشراك جميع المواطنين بشكل إجبارى فى النظام. وبالطبع ليست هذه هى الاستراتيجية الوحيدة التى يمكن اتباعها. وأول الشرائح التى يسهل إشراكها, فى العادة, تتمثل فى العاملين بالقطاعين الحكومى والعام, ويليهم بعد ذلك العاملون بمؤسسات القطاع الخاص والشركات. ويتوقف النظام فى تمويله على الاشتراكات التى يتم استقطاعها بشكل منتظم من مرتبات العاملين إضافة إلى مساهمات أصحاب الأعمال. غير أن الأمر لا يسرى بمثل هذه السهولة حينما يتعلق بأصحاب الأعمال الخاصة (الحرة), حيث أنهم مطالبون بدفع كلا النوعين لكونهم عاملين وأصحاب عمل فى ذات الوقت. وفى بعض الأحيان تقوم الفئة الأفضل حالا ضمن هذه الشريحة بمقاومة عملية تحصيل الاشتراكات على اعتبار أنهم يدفعون أكثر من غيرهم.  ويزداد الأمر تعقيدا حين يأتى دور العاملين غير الرسميين الذين يصعب تحديدهم والوصول إليهم. وفى العموم, يعانى الكثير من أصحاب هذه الشريحة من عدم القدرة على الكسب الجيد أو بانتظام. وفى حال ما إذا كانوا يعملون لدى أحد أرباب الأعمال, فأول شئ يقوم به رب العمل, فى بعض الأحيان, هو التهرب من دفع المساهمات المطلوبة.  وأخيرا نصل إلى الطبقة الفقيرة من المواطنين الذين لا طاقة لهم بدفع الاشتراكات المطلوبة. ومن المتوقع فى هذه الحالة أن تتكفل الحكومة بتلك الاشتراكات؛ كما يمكن للحكومة أيضا أن تقوم بتغطية أقساط العاملين بالقطاع الرسمى بشكل جزئى أو كلى, على حسب الحاجة.
وإذا ما ألقينا نظرة على الوضع الحالى فى مصر (2011), سنجد أن لدينا مزيجا متنوعا –  فهناك جزء من السكان يتم تغطيتهم من خلال عوائد الضرائب العامة؛ وهؤلاء يمكنهم الحصول على الخدمات بشكل مباشر عن طريق شبكة منشآت تقديم خدمات الصحة العامة, أو بشكل غير مباشر عن طريق برنامج العلاج على نفقة الدولة. ويغطى نظام التأمين الصحى الاجتماعى العاملين فى الحكومة والقطاعين العام والخاص وأطفال المدارس وأصحاب المعاشات والسيدات الأرامل. كما أن الأطفال تحت سن الدراسة يتم تغطيتهم من خلال نظام اختيارى. وتمتلك الهيئة العامة للتأمين الصحى شبكة من مؤسسات تقديم الخدمات الصحية, كما أنها تتعاقد فى قليل من الأحيان مع بعض المؤسسات الصحية العامة والخاصة. وبناء عليه, تظل  الشريحة التى تضم كلا مِمّن يعملون لحسابهم الخاص لدى القطاع غير الرسمى والفقراء خارج تغطية نظام التأمين؛ غير أنها (تلك الشريحة) تُعَد -من الناحية النظرية- مغطاة بذلك النظام الذى يعتمد فى تمويله على إيرادات الضرائب العامة. علاوة على ذلك, توجد هناك شريحة مهمة, لا تقع تحت أى من الفئات المذكورة, تتمثل فيمن يعولهم العاملون بالهيئة العامة للتأمين الصحى. ونتجت هذه الشريحة جرّاء عدم اتباع عملية توسيع التغطية للترتيب المشار إليه, بل تم تغطية فئات معينة بشكل منفصل دون باقى أفراد أسَرهم (الأطفال فى مرحلتى ما قبل وفى سن الدارسة).  ويصبح الأمر غاية فى التعقيد حين ننتقل إلى الشريحة التى سمح لها القانون بالانسحاب خارج مظلة التأمين الصحى, والتى يندرج تحتها مؤسسات القطاع العام والخاص والشركات التى تساهم بنحو 1%. وبالرغم من أن هذه الشريحة تتلقى الخدمات عن طريق شبكة الرعاية الخاصة بها أو من خلال شراء تغطية تأمينية من شركات خاصة, إلا أن المشكلة الأساسية تطفو على السطح حين يصل العاملون بهذه المؤسسات إلى سن التقاعد ويتم الزج بهم -بعدما أصبحوا مرضى وغير قادرين على تحمل نفقات الرعاية الأكثر تكلفة- إلى النظام العام الممول من إيرادات الضرائب العامة.
وبالتطلع إلى المستقبل, ندرك أن توسيع نطاق التأمين الصحى ليشمل مجموعات جديدة سوف يحتاج وقتا طويلا يصل فى العادة إلى عقود. ويتوقف ذلك على حالة النمو الاقتصادى التى تشهدها البلاد بجانب العديد من العوامل الأخرى. كما أن عملية التوسع عادة ما تتم على مراحل. ويستلزم مثل هذا الأمر وضع استراتيجية واقعية للتغطية الشاملة وعرضها على الرأى العام للمناقشة. ولابد أن تبذل الجهات المنوطة جهودا حثيثة لخلق رؤية مشتركة وإجماع, ومن ثم الوصول إلى قرار -مبنى على معرفة- حول ترتيب الفئات التى سوف يتم تغطيتها حسب الأولوية إضافة إلى المنهجية المناسبة. وخلال السطور التالية سوف نقوم بطرح أحد السيناريوهات الممكنة لتحقيق ذلك. وستعتمد عملية ترتيب الأولويات وسيناريو تسلسل التغطية -الذى سوف تتبناه مصر- على الحالة الاجتماعية والاقتصادية والمالية والسياسية القائمة وقت صنع القرار.
1)     أول شريحة يوصى باستهدافها تتشكل ممن يعولهم العاملون بالهيئة العامة للتأمين الصحى. وتعتبر هذه الشريحة الأسهل بين شرائح السكان, حيث إن رب الأسرة مسجل بالفعل كأحد أعضاء النظام ويقوم بالمساهمة من خلال نظام المساهمات الخاص بالهيئة. وسيكون من المُجدى مد مظلة النظام الحالى ليشمل هذه الشريحة التى من الممكن أن تقوم بدفع المساهمات بمعدلات يعاد النظر فيها طبقا لحجم الأسرة وحزمة الخدمات المحددة.
2)     الشريحة الثانية تشمل فقراء المجتمع والعاطلين والفئات الأخرى الهشّة (المهمّشة). وتقول تقديرات عام 2009 بأن واحدا من بين كل خمسة مواطنين مصريين يعيش فى فقر. وبناء عليه ينبغى إعفاء هذه الشريحة, من حيث المبدأ, من دفع الأقساط أو المساهمات, والتى سوف يكون على الحكومة حينئذ تحملها. كما ينبغى أن يكون النظام الذى تتّبعه وزارة التضامن الاجتماعى لتحديد الفقراء أحد المحاور الأساسية فى هذه العملية, حتى وإن أثيرت ثمّة تساؤلات حول قدراته, لضمان فعالية نظام الإعفاءات وعدم تسرب الدعم إلى غير مستحقيه أو حجبه عن مستحقيه. ويستلزم هذا سلسلة من الإصلاحات فى شبكة الأمان الاجتماعى وبرامج الدعم الاجتماعى للتأكيد على أن نظام الإعفاءات يصل إلى المستهدفين (الفقراء) الحقيقيين. وسوف تتطلب عملية دعم الفقراء واحتوائهم تحت مظلة التأمين الصحى موارد مالية كافية ومستديمة. ويتوافر بالفعل جزء كبير من الموارد المطلوبة فى شكل الدعم المادى التاريخى لجانب العرض (تقديم الخدمة) المتّبع فى منشآت تقديم الرعاية الصحية الحكومية؛ إلا أن التحدى يكمن فى التحول من دعم جانب العرض إلى دعم أقساط الفقراء. كما يتوافر هناك أيضا جزء كبير من الموارد فى أنواع الدعم الأخرى الحكومية, مثل دعم الطاقة.
3)     الشريحة الثالثة والأكثر صعوبة فى شمولها بالتغطية تتألف من غير المشتركين أو المساهمين فى نظام التأمين الاجتماعى. ويعتمد هؤلاء فى تلقى الرعاية الصحية على برنامج العلاج على نفقة الدولة فى حالة التعرض لأمراض كارثية, أو نظام الرعاية العامة التى توفره الدولة, أو القطاع الخاص مباشرة فى حال كونهم من غير الفقراء. وبالقدر الذى ستنجح فيه الإصلاحات الضريبية الحديثة فى إضفاء صفة قانونية على العمالة غير الرسمية, بقدر ما سيسهم هذا فى إلحاق شريحة من هذه العمالة إلى النظام الرسمى للتأمين الاجتماعى. وسيتطلب ذلك الالتحاق إما تطبيق نظام المساهمات المبنى على التحقق من القدرة على المساهمة, والذى يقدّر الدخول المالية والأصول؛ أو وضع نظام مساهمات مبنى على تصنيف المخاطر, والغرض من وراءه تشجيع المساهمة الاختيارية. وكلا النظامين يندرج تحتهما تكاليف إدارية ومخاطر معينة يمكن تخفيف حدتها إذا تمكن أصحاب الأعمال الخاصة (الحرة) والعاملين بالقطاع غير الرسمى من تنظيم أنفسهم فى شكل مجموعات, تحت سقف اتحاد أو جمعية مثلا, يمكن اعتبارها كأساس لخلق آلية للمساهمة الجماعية. وأخيرا, سوف تتوقف إرادة هذه الشريحة فى المساهمة على القيمة المتصوَّرة للفوائد التى سوف تجنيها من جانب التأمين الاجتماعى. ومن ثَم, إذا لم ترتق حزمة الفوائد وجودتها إلى الحد الذى تتطلع إليه هذه الشريحة, سيكون هذا فى حد ذاته حافزا جيدا لتجنب الالتحاق بمثل هذا النظام.
وبما أن هذا السيناريو سوف يعمل على زيادة عدد المستفيدين من خدمات التأمين الصحى الاجتماعى, يُحتم هذا -بالضرورة- إجراء سلسلة من الإصلاحات الصحية الموازية وبناء القدرات حتى تستطيع الهيئة العامة للتأمين الصحى احتواء المستفيدين الجدد. كما أن العديد من الوظائف المنوطة بنظام التأمين لابد أن تكون عملية وفعالة, مثل التسجيل وجمع الاشتراكات والتعاقد والسداد. وأخيرا, نود أن نؤكد على أهمية أن يكون نظام التأمين إجباريا حيثما أمكن. وحتى يمكن ضمان الاستمرارية المالية للنظام, سوف تحتاج الحكومة للتأكيد على أن الأقساط الواجبة على الأطفال تحت سن الدراسة يتم دفعها من خلال الإيرادات الضريبية الحكومية, وأن الذين انسحبوا من تحت راية النظام يقومون بسداد الأقساط المستحقة بشكل كامل (كأصحاب عمل وعاملين).
وفى النهاية, يتضح لنا أن الشريحة الأسهل للانضمام, على المدى القريب, إلى نظام التأمين تتمثل فى الأسر التى يعولها العاملون بالهيئة العامة للتأمين الصحى. ويعقب هذا مد مظلة التغطية إلى الفقراء, وهو ما سيتطلب وقتا أطول اعتمادا على القدرة المالية المتاحة (كمّ الأموال التى يمكن تخصيصها بشكل مباشر, أو إعادة تخصيصها من مصادر أخرى مثل دعم الطاقة أو برنامج العلاج على نفقة الدولة). يأتى بعد ذلك دور الشرائح الأخرى الأكثر صعوبة فى التغطية, والتى يمثلها أصحاب الأعمال الحرة والعاملون بالقطاع غير الرسمى.

ولنا حديث آخر...

هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 22 اكتوبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.