الغرض من هذه الصفحة هونشر المعلومات والمناقشة العلمية للمهتمين بالصحة العامة في مصر وصلتها بالتنمية البشرية والعدالة الاجتماعية. وعند القيام بذلك، تلتزم هذه الصفحة أن تتخذ موقفا محايدا وتعرض وجهات النظر كافة على قدم المساواة. الاعمال المقدمة في هذه المدونة تم تقديمها بناء علي أراء عدة خبراء في مجالاتهم.

الجمعة، 9 مارس 2012

الحاجة إلى خطة انتقالية لتحقيق التغطية الشاملة بالخدمات الصحية

أصبح من الواضح أن المرحلة التى تمر بها مصر اليوم تقع على عاتق الحكومة الانتقالية إلى أن تأتى حكومة منتخبة تتولى زمام الأمور. ويصعب خلال هذه المرحلة تحديد دور وزير الصحة؛ وفى حال ما تم تحديده, سوف تقف العديد من التحديات فى طريق القيام بهذا الدور. وفى مقال سابق,  تم تلخيص الدور الذى يمكن أن يلعبه وزير الصحة خلال المرحلة الانتقالية فى: 1) بث روح الثقة فى فريق العمل بالقطاع الصحى, 2) استعادة ثقة الشعب في إدارة القطاع الصحى, 3) تمهيد الطريق لموجة ثالثة من الإصلاح الصحى. وفى كل الأحوال وبعد موجتين تجريبيتين للإصلاح الصحى, فمن المرجح أن تقوم الحكومة المنتخبة القادمة بالشروع فى الموجة الثالثة وإرساء قواعد النظام الصحى الذى يتلاءم مع احتياجات وقدرات عامة الشعب المصرى, ليحل بذلك محل النظام الراهن التعددى والمفتت الذى أخفق فى تحقيق هدفين أساسيين من أهدافه: 1) الحماية المالية, 2) رضاء الجمهور, مع الأخذ فى الاعتبار أن مصر تحرز تقدما ملموسا نوعا ما تجاه الأهداف الألفية الإنمائية المرتبطة بالصحة.
وسوف يكون هناك احتياج إلى مرحلة أطول لتحقيق التغطية الشاملة التى تقوم على نظام صحى رئيسى يقود (أو بالأحرى يهيمن على) عملية تمويل وتقديم الخدمات الصحية. وكما استعرضنا فى أحد المقالات السابقة,  فمن المتوقع أن يكون هذا النظام أحد خيارين:

1)  نظام تأمين صحى اجتماعى يعتمد بشكل أكبر على العوائد الضريبية ويوظِّف فى نفس الوقت بعضا من الخصائص المالية لنظام التأمين القائم على الضرائب. وفى هذه الحالة سوف يعتمد تمويل التأمين الصحى الاجتماعى على اشتراكات المواطنين القادرين على تحمل المساهمات المطلوبة, بجانب الدعم الحكومى -الجزئى أو الكلى- لأقساط المواطنين غير القادرين على السداد. ومن المتوقع أن يكون مصدر هذا الدعم الإيرادات العامة للدولة وأن يكون مبنيا على الضرائب, ويفضل ألا يعتمد ذلك على الضرائب الموجهة (المخصصة لغرض ما). وسيكون هذا التوجه بمثابة استكمال المسار الطبيعى للموجة الثانية من الإصلاح التى تمت بشكل تجريبى فى محافظة السويس.
ومن المرجح أن يتم توسيع مظلة التغطية بالخدمات على نحو تدريجى كما أوضحنا فى مقال سابق. وترتكز سرعة عملية التوسع على قدرة مصر على مواجهة التحديات -التى ناقشناها أيضا فى أحد مقالاتنا السابقة- والتى تتمثل فى: 1) القدرة على التعافى من الهزات الارتدادية التى تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير, واستعادة معدلات النمو العالية التى سبقت الثورة, والارتقاء بمستوى الدخل الإجمالى القومى؛ 2) القدرة على خلق فرص عمل يتوافر فيها عنصر الحماية من خلال ترسيخ ودعم أسس القطاع الرسمى؛ 3) القدرة على توسيع حدود المناطق الحضرية؛ 4) القدرة على مأسسة نظام فعال لإدارة التأمين الصحى؛ 5) مستوى الفقر وإرادة المجتمع تجاه دعم الخدمات المقدمة للفقراء؛ 6) امتلاك شبكة واسعة وجيدة لتقديم الخدمات؛ 7) القدرة على التنظيم.
وسوف تكون هناك أيضا العديد من العوامل الإضافية المحورية ذات الصلة بمصر ومسارها التاريخى تجاه تحقيق التغطية الشاملة, مثل مستويات الرواتب. وتتوقف اشتراكات أصحاب العمل والعاملين على مرتباتهم الأساسية؛ ولكن حالما يتم حساب تلك الاشتراكات على  أساس إجمالى المرتب (أساسى ومتغير), لن يجد العامل نفسه مطالبا فقط بسداد اشتراكات أعلى بكثير من التى يدفعها, وإنما سوف يجد صاحب العمل هو الآخر نفسه مطالبا بتحمل عبء أكبر من المصروفات. وفى الكثير من الحالات يتمثل صاحب العمل فى الحكومة, مما يتسبب فى إلقاء المزيد من الأثقال على ميزانيتها المتواضعة جدا. وفى بعض الحالات الأخرى يتمثل صاحب العمل فى القطاعين العام والخاص, واللذان سوف يُحمِّلان بدورهما العبء على أسعار المنتجات, الأمر الذى قد يتسبب فى زيادة حجم التضخم, وربما يدفع أيضا بعض الشركات الصغيرة لارتداء عباءة القطاع غير الرسمى كوسيلة للتملص من دفع مساهمات تأمينية أعلى.

2)   نظام صحى وطنى يعتمد على الضرائب ويدار بشكل مباشر عن طريق شبكة تقديم الخدمات ليتحول إلى نموذج تعاقدى بين مشترى الخدمة ومقدمها. وفى هذه الحالة سوف يعتمد النظام الصحى الوطنى فى تمويله على الإيرادات العامة. وهناك احتمال كبير أن يقوم هذا النظام بإعلان التغطية الشاملة على المستوى القومى فى مرحلة مبكرة عن النظام القائم على التأمين الصحى الاجتماعى. إلا أن هذا قد يبدو غير عملى على أرض الواقع, حيث إن التغطية الشاملة سوف تحدث على مراحل فى كلا النظامين, وبالتالى ستكون النتائج واحدة تقريبا. ويكمن التحدى فى أن النظام الصحى الوطنى سوف يتطلب المزيد من الأموال الحكومية لحل محل المساهمات الخاصة بالعاملين وأصحاب العمل, الأمر الذى سيساهم فى تيسير عملية التمويل. ويعنى هذا أنه سوف يتعين على الحكومة تخصيص ميزانيات إضافية من الإيرادات العامة.

وفيما يتعلق بالجانب الإيجابى, حسبما أشارت إليه بعض المزاعم, سوف يتطلب النظام الصحى الوطنى نفقات أقل, ويثمر عن نتائج صحية أفضل نظرا لقدرته على التكامل مع برامج الصحة العامة, كما سيتطلب فى ذات الوقت هياكل تنظيمية أقل تعقيدا لسريان النظام, وسيكون أقل تأثيرا على سوق العمل من التأمين الصحى الاجتماعى. يضاف إلى ذلك أن هذا هو النظام الذى قد تفضل وزراة الصحة العمل بموجبه على اعتبار قربه من طريقة تفكير الوزارة, بجانب إلمام فريق العمل الصحى بآليات تقديم الخدمات التى يتضمنها ذلك النظام. على الناحية الأخرى, ربما يشعر الناس بارتياح أكثر للعمل بهذا النظام استنادا إلى أنه لن يتطلب منهم دفع اشتراكات بصورة مباشرة, إلا فى حالة تطبيق آلية المساهمة فى الاشتراكات ورسوم الانتفاع بالخدمة.

وربما يساعد تطبيق نموذج التعاقد بين مشترى الخدمة ومقدمها, فى إطار النظام الصحى الوطنى, على حل الكثير من المشاكل المتأصلة فى هذا النظام فى حال دعمه بمعايير جودة ومجموعة تنظيمات تتسم بالقوة, وخاصة فيما يتصل بأداء النظام ورضاء العملاء عنه. وسوف تمثل آليات الدفع (المادى) مقابل الأداء سمة أساسية فى عملية محاسبة مقدمى خدمات الصحة العامة على حسب أداءهم. وعلى نفس النحو, سيمثل التعاقد مع المنظمات الأهلية غير الهادفة للربح, والتى تتميز بإمكانية الوصول للجمهور وتقديم الرعاية الصحية الثانوية, سمة أساسية أخرى فيما يخص التعاقد المبنى على الأداء.

وفى كلتا الحالتين, المشار إليهما أعلاه, لابد من وضع خطة انتقالية واضحة المعالم قبل البدء فى اتخاذ أى خطوات تنفيذية. وقبل هذا يتعين على الحكومة ومجلس الشعب اتخاذ قرار مستنير وواضح بشأن النظام الصحى الذى سوف تتبناه مصر. ومن المتوقع ألا تقوم الحكومة الانتقالية بالشروع فى أى من النظامين قبل عرضهما للمناقشات الموسعة بين فريق العمل الصحى والمواطنين الذين سوف يتحملون تبعات مثل هذا القرار المصيرى, التى من بينها الالتزام بدفع المساهمات المنصوص عليها, والتى ربما تقتضى التضحية بأولويات حياتية أخرى.

ولنا حديث آخر...

هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 25 ديسمبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.



الجمعة، 2 مارس 2012

الانتقال نحو موجة ثالثة من إصلاح القطاع الصحى المصرى

بدأ القطاع الصحى المصرى, عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير, مرحلة انتقالية جديدة يصعب تحديد المدى الزمنى التى ستستغرقه. فمنذ ذلك الحين تَقلد منصب وزير الصحة والسكان ثلاثة وزراء دون أن يكون هناك رضا لعامة الشعب أو فريق العمل بالقطاع الصحى على أى منهم، مما يشكل تحديا بالغا فى مواجهة من سيناط به قيادة المرحلة الانتقالية. ويرجع السبب وراء حالة عدم ارضا السائدة إلى ارتفاع سقف الطموحات والافتقار إلى خارطة طريق لأهم الأولويات التى ينبغى التركيز عليها, إضافة إلى غياب المؤشرات التى من دونها لا يمكن قياس مدى التقدم الذى سوف تثمر عنه المرحلة الانتقالية.

ومن المتوقع أن يلى المرحلة الانتقالية موجة ثالثة من الإصلاح الصحى؛ غير أن افتقاد الرؤية الاستراتيجية لهذه الموجة المحتملة من شأنه أن يعرقل المساعى المبذولة لتصميم وتنفيذ عملية التحول. وتظهر بوادر تلك الموجة فى الأفق إذا ما طالعنا تاريخ الإصلاح الصحى فى مصر, والذى يمكن تقسيمه إلى ثلاثة مراحل:

1)     مرحلة ما قبل الإصلاح (قبل عام 1997): ركزت على تحسين النتائج المرتبطة بصحة الأمهات والأطفال, إضافة إلى الخصوبة.
2)     الموجة الأولى من الإصلاح (1997 – 2005): ركزت على التغطية الشاملة بالخدمات الصحية عن طريق نظام صحى قومى.
3)     الموجة الثانية (2006 – 2010): ركزت على توسيع مظلة التغطية الشاملة بالخدمات من خلال التأمين الصحى الاجتماعى.
مرحلة ما قبل الإصلاح
دار محور تركيز هذه المرحلة حول تحسين نتائج البرامج الرأسية المعنية بالخصوبة ورعاية الأمومة والطفولة, والتى يتم تنفيذها على مستوى الرعاية الصحية الأولية. واستهدفت الجهود الرامية إلى رفع الكفاءة خلق حالة من التكامل بين خدمات صحة الطفل على مستوى الرعاية الأولية؛ وأيضا استرداد التكاليف على مستوى المستشفيات. بينما ركزت الجهود الرامية إلى الحماية والتغطية الشاملة على توسيع مظلة التأمين الصحى (بشكل إجبارى للأطفال فى سن الدراسة واختيارى لما دون ذلك السن).
الموجة الأولى من الإصلاح
بغض النظر عن التصميم الأصلى, تبنت هذه الموجة نموذج "النظام الصحى القومى" لتحقيق التغطية الشاملة على نحو تجريبى فى خمسة محافظات. وأخذت حينئذ وزارة الصحة بزمام الأمور لما لها من إلمام بالنظام الصحى القومى, إضافة إلى كون عملية الإصلاح امتدادا طبيعيا للدور الأصلى الذى تلعبه الوزارة. على الجانب الآخر, لم يتم إشراك الهيئة العامة للتأمين الصحى بشكل كبير فى عملية الإصلاح واستمرت فى أداء المهام الأساسية الموكلة إليها, فى حين أنه كان من المتوقع أن تخوض هى الأخرى نفس العملية. وشهدت هذه المرحلة إدخال: 1) خدمات صحة الأسرة ونظام اعتمادها؛ 2) التخطيط القائم على احتياجات المنشآت الصحية؛ 3) نظام الدفع (المادى) مقابل الأداء, بشكل جزئى, بالاعتماد على صناديق صحة الأسرة كمحاولة لفصل عملية تقديم الخدمات عن إدارتها. ومما لا شك فيه أن تدريب القوى العاملة والجودة لعبا دورا محوريا فى زيادة الطلب على الخدمات, غير أن الرسوم المالية المفروضة على العملاء مقابل الخدمة لعبت دورا عكسيا فى هذا الصدد.
الموجة الثانية من الإصلاح
تبنت هذه الموجة نموذج "نظام التأمين الصحى الاجتماعى" لتحقيق التغطية الشاملة بصفة تجريبية فى محافظة واحدة. وجرت عملية التصميم خلال تطور مراحل التنفيذ مع بعض التحفظ تجاه توسيع نطاق التغطية. واعتمد هذا التحول الواضح من "النظام الصحى القومى" إلى "نظام التأمين الصحى الاجتماعى" على ورقة سياسات قام بإعدادها الحزب الوطنى الديمقراطى السابق, والتى تلاها إعلان رئاسى فى محافظة سوهاج فى  2005. وأجبر هذا التحول وزارة المالية للقيام بدور الشريك صاحب القرارات المؤثرة خلال هذه المرحلة. كما قامت الهيئة العامة للتأمين الصحى, على نحو جزئى, بإدارة هذه المرحلة التى شهدت بعض العقبات للوصول إلى توافق جماعى والاعتراف بالحاجة إلى المزيد من الدراسات لاستيضاح الآثار المالية للتأمين الصحى الاجتماعى على الميزانية. ومما يدعو  للأسف أنه مع مضى الوقت تم إسقاط العديد من السمات والملامح التى أوجدتها الموجة الأولى من الإصلاح.
الانتقال\التحول
تمر مصر الآن بالمرحلة الانتقالية التى تسبق الموجة الثالثة من الإصلاح. وقد يكون من الحكمة وضع مجموعة من الأهداف المتواضعة (الواقعية) التى يمكن تحقيقها خلال هذه المرحلة بدلا من محاولة إصلاح النظام برمته أو تمرير قوانين مصيرية مثل التأمين الصحى الاجتماعى. وقد يكون أيضا من الأهمية بمكان أن يتم التوصل إلى إجماع عام حول النظام الصحى الذى سوف يعكس قيم واحتياجات وقدرات المواطنين قبل انطلاق الموجة الثالثة. وفى هذا الصدد, يطرح السؤالين التاليين نفسهما
1)     هل هناك استعداد شعبى لتقبل فكرة أن الإصلاح سوف يستغرق وقتا أطول مما قد يتوقع؛ وهل هناك استعداد للتطبيق على مراحل مخططة بشكل واقعى بدلا من الإصلاح الشامل الذى يشبه العاصفة؟

لو كان الأمر كذلك,

2)     ما هو الحد الأدنى من الأولويات والأهداف التى تتطلبها مرحلة التحول, وكيف سيتم قياس نجاحها فى تحقيق الأهداف المخططة من عدمه؟
وهنا قد يمكننا القول بأن أولويتين أساسيتين تستحوذان على اهتمام المواطنين والعاملين بالقطاع الصحى خلال المرحلة الانتقالية:
أ‌)       القيادة\الإدارة\ الحوكمة ومكافحة الفساد
ب‌)   القوى العاملة بالقطاع الصحى

وسوف تحتاج هاتين الأولويتين إلى الدراسة والمزيد من التفصيل لضمان جدوى ونجاح إجراءات التنفيذ, إلى جانب وضع وزير الصحة قيد المساءلة العادلة والبناءة على مستوى الأداء خلال هذه المرحلة. ومن المتوقع أن يثمر التحسن الحاصل فى هذين النطاقين عن تحسن ملحوظ فى عملية تقديم الخدمات بالصورة التى تلقى قبول واستحسان الجموع العريضة من المواطنين.

ولنا حديث آخر...

هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 25 نوفمبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.


السبت، 18 فبراير 2012

هل التأمين الصحى الاجتماعى نظام الرعاية الصحية الأفضل لمصر؟

طريق مصر نحو تأمين صحى اجتماعى – 7

فى الوقت الذى تسير فيه مصر على نحو جيد نسبيا تجاه خفض معدلات وفيات الأمهات والأطفال, وبينما تواجه ميزانيتها ضغوطا بالغة لتلبية المتطلبات المتنوعة التى ينادى بها المواطنون, وفى ظل بروز العديد من أوجه القصور التى يعانى منها النظام الصحى والتى يقف وراءها فى الأساس التفتت الحاصل فى عمليتى تمويل وتقديم الخدمات الصحية, وفى الوقت الذى تم فيه طرح مسودة قانون التأمين الصحى الاجتماعى على الجمهور للمناقشة فى مناخ ما بعد الثورة والذى قد يسمح بإعادة النظر فى الاستراتيجيات التى تم تصميمها فى مرحلة سابقة من مراحل الإصلاح الصحى.. بعد كل ذلك, وقبل اتخاذ أى قرار بشأن القانون  المقترح, قد يفرض هذا السؤال نفسه: هل ينبغى على مصر أن تتمسك بالتأمين الصحى الاجتماعى كاستراتيجية أساسية لتمويل النظام الصحى, أم أن هناك بديل أفضل يمكن اللجوء إليه أم التأمين الصحي الاجتماعي هو البديل الافضل؟ ترى هل فات الأوان لأن نطرح مثل هذا السؤال؟

تهدف الحكومات فى العادة إلى تحقيق تغطية شاملة بالخدمات الصحية للشعوب التى تحكمها, والشعوب بدورها عادة ما تطالب بنظام صحى يلبى احتياجاتها من حيث العيش فى حالة صحية أفضل, وتوافر الحماية المالية, وسرعة الاستجابة والشعور بالكرامة أثناء الحصول على الرعاية الصحية. وفى سبيل تحقيق هذا فى مصر, تم بذل الكثير من الجهود المتواصلة لإصلاح القطاع الصحى منذ 1997, إلا أن هذه الجهود لم تكترث كثيرا بدمج الجمهور المستهدف فى عملية الإصلاح.

 وإذا ما نظرنا فى صفحات الماضى, فقد يكون من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن معظم المساعى التى حدثت خلال الستين سنة الماضية لإصلاح القطاع الصحى بهدف تحقيق التغطية الشاملة انتهت بتطبيق أنظمة مختلطة ومفتتة لم ترقْ أبدا إلى ما يصبو إليه الشارع المصرى. وخلال مطالعتى لمختلف التقارير المحلية والدولية ذات الصلة, دائما ما صادفت هذه المقولة التى تصف النظام الصحى المصرى على أنه "نظام صحى تعددى يقوم على عدد من أنظمة تقديم الخدمات العامة والخاصة الموازية, فضلا عن العديد من الوسطاء الماليين". وقد باءت كل محاولات الإصلاح فى التعامل مع مسألة التعددية بالفشل – وينتهى الأمر فى العادة بنظام أكثر تشرذما فيما يخص جانب تقديم الخدمة أو تمويلها أو كلاهما معا, مما يفضى فى نهاية المطاف إلى نظام دون هوية.

وتعود نشأة حالة التفتت التى يشهدها النظام إلى عقود مضت, ربما تصل إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضى, حين صدر وقتها تشريعان موازيان لوضع أسس برنامج العلاج على نفقة الدولة (قرار رئاسى رقم 1754 لعام 1959 متبوعا بقرار رئاسى آخر يحمل رقم 1069 لعام 1964)؛ والتأمين الصحى الاجتماعى (قانون 75 لعام 1963 والمرسوم الرئاسى 1209 لعام 1964). وربما كان الهدف من وراء هذه القرارات هو محاولة تلبية طموحات الشعب المصرى فى رعاية صحية أفضل, إضافة إلى ترجمة نصوص الدستور -التى تقضى بوضع مسئولية تقديم الخدمات الصحية (دستور 1956) والتأمين الاجتماعى (دستور 1964) بما فى ذلك حق الصحة للجميع على كاهل الدولة- إلى واقع ملموس. وتلى هذا العديد من القرارات الأخرى التى نتج جراءها مزيدا من التفتت فى جانب تقديم الخدمة, مما أدى بدوره إلى توالد عدد من أنظمة تقديم الخدمات العامة والحكومية إلى جانب الأنظمة الموازية التى تعمل بها وزارة الصحة.

وهنا يطرح سؤال نفسه: لماذا يحدث كل هذا؟ وما هو النظام الأمثل لمصر – نظام صحة وطني يعتمد في تمويله على العوائد الضريبية أم نظام تأمين صحى اجتماعى يعتمد علي تمويله علي مساهمات منتفعيه؟

يدعم الفريق الذى يميل إلى النظام الصحي الوطني المعتمد على الضرائب وجهة نظره بثلاث نقاط:
1) التأمين الصحى الاجتماعى يقلل من رغبة الشركات فى الاستعانة بقدر وافر من العمالة, وبالتالى يساهم فى الحد من فرص التشغيل ويروج لأسواق العمل غير الرسمى.
2) غياب التغطية بالخدمات الصحية عن مجموعات معينة من المواطنين خلال الفترة ما بين إرساء أسس نظام التأمين الصحى الاجتماعى وتحقيق التغطية الشاملة, وهى الفترة التى غالبا ما تطول.
3) التفاوت بين حزم الخدمات المقدمة وجودتها عبر مختلف المجتمعات السكانية.
على الجانب الآخر, يؤيد الفريق المساند للتأمين الصحى الاجتماعى رؤيته بنقطتين:
 1)  التأمين الصحى الاجتماعى يعد أحد أهم المصادر الإضافية لتمويل النظام الصحى.
2)  بإمكان نظام التأمين الصحى الاجتماعى تقديم خدمات ذات جودة عالية وبتكلفة أقل من تلك المقدمة من خلال النظام المبنى على الضرائب, عن طريق الفصل بين عملية شراء الخدمة وتقديمها, وتشجيع التعاقد الانتقائى مع مؤسسات تقديم الخدمة (بما فيها القطاع الخاص).

وقد أظهرت الدراسات المعنية بالبحث فى أثر هذه الأنظمة على النتائج الصحية, فى البلدان التى تعمل بها منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية, أن الأنظمة الصحية القائمة على التأمين الصحى الاجتماعى
1) لديها بعض الخصائص المعينة التى قد تجعلها أكثر كُلفة من النظام القائم على الضرائب؛
2) لا تؤدي أفضل لتحسين النتائج الصحية المتوقفة على الرعاية الطبية بالرغم من احتمالية الإنفاق الزائد؛
3) قد لا تكون الافضل فى ما يتعلق بالنتائج الصحية التى تستلزم برامج صحة عامة مجتمعية قوية؛
4) قد تزيد الوضع سوءا فيما يتعلق بتحفيز أسواق العمل غير الرسمى وعدم تشجيع العمالة.

وتثير النتائج التى خرجت بها مثل هذه الدراسة الأسئلة التالية:
 1)    هل من الممكن أن نقوم بتطبيق نظام قد يكلف الدولة المزيد من الأموال دون أن يكون لذلك فى المقابل أثر إيجابى على النتائج الصحية, وخصوصا فى الوقت الذى لا تتحمل فيه الميزانية العامة أى أعباء إضافية؟ هل سيساهم هذا فى دعم عنصر الفعالية؟ أم أن هذا النظام سيكون مصدر رئيسي من مصادر تمويل الرعاية الصحية؟ 
2)     هل سيؤدي تطبيق النظام الي أن يزيد من حجم العمالة غير الرسمية فى حين يعيش ثلثى هذا الحجم دون حماية مالية أو اجتماعية؟ هل سيساهم هذا فى دعم عنصر الحماية؟
      3)     هل هناك أى مخاطر محتملة على الإنجازات القومية فى مجال الصحة العامة جراء تطبيق هذا النظام؟ وبما أن أنظمة التأمين الصحى الاجتماعى تركز فى الأساس على الأفراد, أو حتى الأسر, هل سيفقدنا هذا تركيزنا المُنصب على المجتمع بأكمله من خلال برامج الصحة العامة المعتمدة فى تمويلها على النظام المبنى على الضرائب؟ هل سيساهم هذا فى الوصول إلى نتائج صحية أفضل؟
يقودنا كل هذا إلى طرح السؤال التالى, علاوة على سؤالين إضافيين؟


  هل يمكن لمصر أن تقوم بتطبيق نظام مبتكر ينتقى مميزات النظامين المشار إليهما ويتجنب فى ذات الوقت عيوبهما؟

1)  هل يمكننا تحويل نظام صحة وطني مبنى على تمويل من الضرائب تديره بشكل مباشر شبكة تقديم خدمات صحية حكومية إلى نموذج تعاقدى بين مشترى للخدمة ومقدمها؟
فى ضوء هذا السيناريو, تقوم المنظمات المشترية للخدمة بالتعاقد مع جهات أخرى لتقديمها بدلا من إدارتها بشكل مباشر. ويمكن تطبيق هذا عن طريق انتهاج نموذج التأمين الصحى الاجتماعى الذى يفصل بين مشترى الخدمة ومقدمها, حيث تقوم المنظمات الشرائية بالتعاقد مع مؤسسات أخرى للقيام بعملية تقديم الخدمة بما فيها مؤسسات القطاع الخاص و الاهلي, وهو ما قد يساهم فى تحقيق نتائج صحية أفضل مقابل نفقات أقل. ولكن إلى أى مدى يمكن أن يحدث هذا دون المخاطرة بتكامل وتماسك برامج الصحة العامة؟  وتعد تجربة مصر فى إنشاء صناديق صحة الأسرة, والتى تعتبر بمثابة مؤسسات اقليمية للتأمين الصحى الاجتماعى تتلخص وظيفتها فى شراء الخدمة, أحد المحاولات التى تمت فى هذا الصدد. وقد استمر التساؤل حول ملكية هذه المؤسسات فترة طويلة بين وزارة الصحة والهيئة العامة للتأمين الصحى, غير أن هذه الشراكة لم تنجح فى بناء مؤسسة قومية يمكنها متابعة مثل هذه الهيئات اللامركزية المسماة بصناديق صحة الأسرة. فضلا عن ذلك, قامت وزارة الصحة بإنشاء مؤسسات تقديم خدمة تحت اسم "الإدارات المحلية لمقدمى الخدمة" على مستوى الإدارات الصحية لضمان تدفق أموال الصناديق عبر مؤسستها, والتى تفككت فى وقت لاحق بعدما اتجه النظام الصحى المصرى بشكل أكبر نحو التأمين الصحى الاجتماعى.


2)  هل يمكن لنظام التأمين الصحى الاجتماعى المعتد أساسا علي المساهمات أن يزيد من اعتماده على العوائد الضريبية ويلتقط بعضا من وظائف النظام القائم على التمويل من الضرائب؟

يبدو أنه من الممكن تطبيق هذا أيضا. وقد لاحظنا أن الإصدار الأخير من قانون التأمين الصحى الاجتماعى يحتوى على بعض المواد التى تحاول زيادة الموارد الضريبية للتأمين من خلال مصادر أخرى بجانب ضرائب الرواتب, بالرغم من اقتراح تطبيق آلية الضرائب المخصصة Earmarked Taxes (الموقوفة لصالح التأمين). وقد أثارت هذه التجربة الجديدة حالة من الجدل الممتد قبل وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير, ومن الواضح أنها ستستمر لبعض الوقت. ومن الممكن أيضا أن يكون الربط بين التأمين الصحى وخدمات صحة الأسرة بمثابة القاعدة التى ستعمل على حماية وظائف الفحص الخاصة ببرامج الصحة العامة.

وفى النهاية, سوف يتعين على مجلس الشعب -بعد الدراسة المنهجية المتعمقة- أن يتخذ قرارا بشأن نظام الرعاية الصحية الذى سيتم العمل به وتمويله؛ مع الأخذ فى الاعتبار أن يتم اختيارالنظام الأقل تكلفة وأكثر قدرة على تحقيق النتائج الصحية المرجوة وتشجيع أسواق العمل والانتقال المرن عبر مراحل التغطية بالخدمات. بعد ذلك تقوم الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع القانون المتفق عليه فى حيز التنفيذ بالشكل الذى يرتقى إلى ما يتطلع إليه المواطن المصرى.

     ولنا حديث آخر...

     هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 20 نوفمبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.






الاثنين، 6 فبراير 2012

إطار عمل لقراءة قانون التأمين الصحى الاجتماعى

طريق مصر نحو تأمين صحى اجتماعى – 6

يستند هذا المقال إلى إسهامات وخبرات نخبة دولية ذائعة الصيت من خبراء التأمين الصحى الاجتماعى. وقد تم إعادة بلوَرة هذه الإسهامات بما يتناسب مع الأوضاع الجارية على المستوى القومى فى مصر.
أثارت الأخبار المتواترة عن القانون المرتقب للتأمين الصحى الاجتماعى المصرى, وما دار من نقاشات حول نوعية التعديلات التى من الممكن أن تلمس نصوصه من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية, العديد من التساؤلات حول كيفية قراءة مثل هذه القوانين وما يجب أن تشتمل عليه. وللمساعدة فى قراءة هذه النوعية من القوانين الاجتماعية عند عرضها رسميا من الجهات المختصة على الرأى العام, ينبغى أن يكون هناك إطار عمل منهجى يمكن الرجوع إليه فى عملية القراءة هذه. من هذا المنطلق, سوف نحاول فى سطورنا التالية تقديم 'بعض' الأسس والمكونات التى قد تساعد فى بناء إطار العمل المشار إليه. ونود أن ننوه إلى أن هذا المقال لن يتناول مقترح قانون التأمين الصحى الاجتماعى الذى تم نشره مؤخرا بشكل نقدى من قريب أو بعيد. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن هذا الإطار لن يفرّق بين ما ينبغى أن يُذكر على أنه نصوص القانون نفسه, من جانب, أو نصوص اللائحة التنفيذية للقانون, على الجانب الآخر, باعتبار أنهما مكملين لبعضهما.
يشتمل الإطار المنطقى لقوانين التأمين الصحى الاجتماعى فى العموم على الآتى:
         1)     تعريف نظام التأمين الصحى الاجتماعى
         2)     كيفية تفعيل الخصائص الأساسية المتعلقة بالإلزامية (الاشتراك الإجبارى) والعالمية (شمول كل المواطنين)
         3)     الأسس التى تحكم النظام
         4)     التحول من الوضع الحالى إلى النظام المتكامل الموحد
         5)     تعريف المصطلحات التى يحويها القانون
         6)     تحديد الفئات المستهدفة (المستفيدة)
         7)     حزمة الخدمات التى سوف يتم تمويلها
         8)     كيف سيتم التمويل
        9)     تحديد ووصف الهيئة التى سوف تتولى إدارة النظام, بما فى ذلك القيادة, والمهام, والصلاحيات, وإدراة الموارد المالية, والمساءلة
        10)  عملية شراء الخدمات الصحية والمستلزمات (البضائع) الطبية
        11)  حماية المستهلك
   12)  دور التأمين الصحى الاختيارى

ونتعرض هنا بشئ من التفصيل إلى المكونات المشار إليها أعلاه.
التعريف:  عند تعريف نظام التأمين الصحى الاجتماعى لابد من الإشارة إلى ثلاثة جوانب:
       1)     طبيعة النظام
       2)     أهداف النظام
       3)     الشكل الهيكلى المطلوب لوضع النظام فى حيز التنفيذ
هناك أيضا حاجة ضرورية إلى وضع الثلاثية الأساسية للنظام فى الاعتبار, والتى تشمل:
       1)     العالمية: شمول كل المواطنين
       2)     الإلزامية: إلزام كل المواطنين بالاشتراك فى النظام
       3)     المرحلية: تطبيق النظام بشكل تدريجى على مراحل محددة

الأسس The Principles: عادة ما تشير أسس قوانين التأمين الصحى الاجتماعى إلى التضامن (التكافل) الاجتماعى؛ وأساس الاشتراك فى النظام (فرد - أسرة)؛ وما إذا كان الوصول إلى الخدمة الصحية على أساس الاحتياج أم الطلب؛ ونطاق الخدمات (أولية - ثانوية - مزمنة)؛ وأساس الاشتراك (إجبارى؟), مع فصل التمويل عن تقديم الخدمات؛ ودور القطاع الخاص من حيث التعاقد على تقديم الخدمات بصفة ربحية أو غير ربحية؛ ودور الدولة فى دعم الفقراء والمهمشين (بشكل كامل أو جزئى)؛ والإعفاءات الضريبية للمساهمات؛ ودور مؤسسات التأمين الخاص (بديل - مكمل - إضافى).
التحول The Transition: تبدو هناك حاجة مستقبلية إلى وضع خطة تحول (انتقال) من الوضع الحالى المفتت هيكليا, والذى تسيطر على مقاليده الهيئة العامة للتأمين الصحى, إلى هيكل مؤسسى موحد. ويمكن أن يتم وضع تفاصيل هذا التحول بناءً على قرارات (مراسيم) منظِّمة. كما يمكن أن ينص القانون فى إحدى مواده على الأسس اللازمة للتحول. وسوف يتناول هذا التحول السبل الممكنة للوصول مع الوقت إلى نظام متكامل. وتجدر الإشارة هنا إلى أربعة مسائل تتعلق بالتحول

          1)     مسئولية إدارة النظام خلال المرحلة الانتقالية
          2)     إدارة عملية ضم الفئات غير المؤمن عليها إلى النظام
            3) إدارة عملية تحويل الفئات المؤمن عليها حاليا إلى النظام الصحى الاجتماعى, وفى هذه الحالة سوف يكون النظام "موحدا", أى تحت مظلة إدارية واحدة
        4)  علاقة النظام بأنظمة التمويل الصحية الموازية القائمة, مثل برنامج العلاج على نفقة الدولة, والأموال المتدفقة لصالح خدمات الصحة العامة (العلاجية)
المؤسسية The Institution: لا يمكن إدارة أنظمة التأمين الصحى الاجتماعى إلا من خلال هيكل مؤسسى. ولهذا الغرض قد يتم إنشاء كيان ما فى المستقبل, مثل 1) الهيئة العامة للتأمين الصحى بعد إعادة هيكلتها, أو 2) كيان جديد تماما مصمم خصيصا لإدارة نظام التأمين الصحى الاجتماعى المتكامل بوضعه القانونى واستقلاليته. وسوف يتعين على القانون أ\و لوائحه أن يحدد الجوانب المخوّلة لمثل هذا الكيان, بدءا من الحوكمة والاستقلالية, مرورا بالشكل الهيكلى والمهام والصلاحيات, وصولا إلى التعاقدات والمكاتب الإقليمية.
حزمة الخدمات التى سيتم تمويلها What to Finance: يجب أن يحدد القانون مجموعة موحدة من خدمات التأمين الصحى الاجتماعى التى سوف يغطيها. وعادة ما يتم تحديد وتحديث هذه المجموعة من خلال قرارات تنظيمية تصدرها الجهات المشاركة فى تقديم الخدمة. كما سيحتاج القانون إلى استخدام آلية التحليل الاكتوارى فى تحديد مجموعة الخدمات لضمان رصد المعوقات المالية المحتملة. وأخيرا, لابد أن تعتمد عملية صنع القرار على عملية تحديد وتحديث مجموعة الخدمات التى يكفلها نظام التأمين لتفادى أثر النفوذ السياسى على الهدف المنشود من وراء المسئولية المالية.
كيف سيتم التمويل How to Finance: يُفضل أن يجرى التمويل فى شكل مجموعات سوف يتم تغطيتها وتقسيمها إلى ثلاثة قطاعات (الرسمى وغير الرسمى والمدعم). كما يفضل أيضا, فى إطار ما يسمح به الدستور, عدم إدراج الأرقام فى القانون نفسه حيث أنها عرضة للتغيير من آن إلى آخر؛ غير أن هذا قد يبدو صعب التحقيق فى مصر. من هنا, قد يستلزم هذا الأمر الإشارة القانونية إلى أن تلك المواد سوف تخضع للمراجعة الدورية استنادا إلى الدراسات الاكتوارية التى تقوم بها الحكومة. وسوف يتم تطبيق هذا على المساهمات والإعانات, إضافة إلى مستويات المشاركة فى السداد.
التعاقد مع جهات تقديم الخدمة والتوريد Providers and Suppliers - Contracting: ينبغى أن ينص القانون على أن كيان التأمين الصحى الاجتماعى يعد مؤسسة تمويل للجهات العامة والخاصة القائمة بتقديم الخدمات والمستلزمات الطبية. أيضا, ينبغى أن يشير القانون إلى أن عملية التعاقد هذه سوف يحكمها سلسلة من المعايير القياسية التى تضمن قيام تلك الجهات بأداء المهام المنوطة بها على مستوى عالٍ من الجودة.
حماية المستهلك Consumer Protection: ينبغى أن يتضمن القانون المواد اللازمة لحماية المستهلك بما يضمن تمتعه بالحصول على كل حقوقه دون أى معوقات.
التأمين الصحى الاختيارى Voluntary Health Insurance: إذا كانت السياسة المتبعة ستقضى بتقديم وتمويل الخدمة من خلال مزيج (شراكة) بين القطاعين العام والخاص, ينبغى إذَن أن تنص مواد القانون على حق الأفراد فى شراء خدمات التأمين الصحى الاختيارى والتى من الممكن أن تكون بديلة أو مكملة أو إضافية.
ولنا حديث آخر...


هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 13 نوفمبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.




الاثنين، 23 يناير 2012

العوامل العامة المساعدة فى الانتقال إلى التغطية الشاملة بالتأمين الصحى الاجتماعى

طريق مصر نحو تأمين صحى اجتماعى –  5

ما هى العوامل التى يمكن أن تساعد فى تحقيق تغطية شاملة بنظام تأمين صحى اجتماعى فى مصر؟ سوف نحاول الإجابة على هذا السؤال فى ظل خبرات وتجارب الدول الأخرى وآراء مجموعة من الخبراء المتخصصين. ومن ناحية المبدأ, فكلما قَل نصيب الدخل السنوى للفرد فى بلد ما, وانكمش حجم القطاع الرسمى, وزاد معدل الفقر, وارتفع معدل الإعالة, كلما أصبحت عملية توسيع مظلة التغطية بخدمات التأمين الصحى الاجتماعى أكثر صعوبة.

التنمية الاقتصادية - من حيث مستوى الدخل الإجمالى السنوى للدولة ومعدل النمو

كلما نما نصيب الفرد من الدخل, كلما نتج ذلك زيادة في قدرة الشركات والمواطنين على المساهمة فى تمويل نظام التأمين الصحى الاجتماعى. وبالمثل, كلما زادت الرواتب والأجور التى يتقاضاها المواطنون, كلما سنحت الفرصة لتمويل حزمة أوسع من الخدمات وكلما ساهم ذلك أيضا فى تخفيف العبء الاقتصادى المتمثل فى ضريبة الرواتب. ومن المتوقع فى مثل هذه الحالة أن ترتفع العوائد الضريبية والتى سوف تدعم بدورها عملية توجيه أى دعم حكومى إلى نظام التأمين الصحى الاجتماعى. من هنا يتضح لنا أن النمو الاقتصادى المطّرد من المرجح أن يساعد فى النهوض بقدرة المجتمع على تمويل نظام التأمين الصحي.

فى عام 2010, قبل قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير, قُدر متوسط الدخل الإجمالى للفرد بـــ 2440 دولار أمريكى, وتراوح معدل النمو الاقتصادى السنوى بين 5 - 7%. وفى ظل تباطؤ النشاط الاقتصادى الذى شهدته مصر بعد الثورة, فمن المتوقع أن ينخفض معدل النمو الاقتصادى إلى 2% أو أقل خلال 2011. ويعتبر معدل الدخل الإجمالى الحالى لمصر أشبه بمعدلات الدول التى تتبنى نظام التأمين الصحى الاجتماعى حين بدأت العمل به منذ زمن بعيد, مثل ألمانيا (2237 دولار فى 1883) والنمسا (2420 دولار فى 1887) وبلجيكا (1808 دولار فى 1851) واليابان (2140 دولار فى 1922). وينطبق هذا أيضا على معدل النمو الاقتصادى, والذى تنوع بين الارتفاع وأحيانا الاستقرار خلال الفترات الانتقالية التى مرت بها هذه الدول. 

الهيكل الاقتصادى - من حيث الحجم النسبى للاقتصاد الرسمى وغير الرسمى

يواجه العديد من الدول النامية بعض العقبات فى عملية تقييم الدخول المادية وجمع المساهمات اللازمة نظرا لكبر حجم العمالة غير الرسمية فى تلك الدول, الأمر الذى قد يعوق إمكانية تغطية العاملين فى القطاع غير الرسمى, على اعتبار أن نظام التأمين يعتمد فى الأساس على المساهمات. وبالتالى, كلما كبر حجم القطاع الرسمى, كلما تيسرت عملية جمع ضريبة الرواتب المنصوص عليها من العاملين وأرباب العمل. 

وعلى المستوى القومى, تشير الإحصائيات إلى أن حجم العمالة غير الرسمية آخذ فى التصاعد لسببين رئيسيين:

1)     اعتماد القطاع العام بشكل كبير على الاستعانة بالمتعاقدين المؤقتين بدلا من العمالة الرسمية الدائمة.
    2) توافر معظم فرص العمل فى القطاع الخاص (غير الرسمى) والذى يضم أكثر من نصف حجم العمالة (53%), بنسبة ارتفاع تقدر بـــ20% عن مستويات ما قبل الثورة. 

وإذا ما دققنا النظر فى الصورة عن قرب, سوف نجد أن 58% من العاملين المصريين خارج نطاق أى نظام حماية اجتماعية, و63% يعملون دون عقود, و13% يعملون دون أجور. وحيث أن القطاع العام -الذى يُنظر إليه على أنه جهة عمل "أكثر أمانا"- مستمر فى التقلص, إضافة إلى عدم قدرة القطاع الخاص على توفير فرص عمل ذات طابع رسمى, يصير الطريق أمام تحقيق التغطية الشاملة بنظام تأمين صحى ملىئ بالتحديات.

التحضر\التمدن - ويتم تحديده بناء على توزيع السكان المستهدفون من التغطية

بشكل عام, تسهل تغطية سكان الحضر الذين يعيشون فى ظل كثافة سكانية عالية ويتمتعون بالحد الأدنى من البنية التحتية ووسائل الاتصالات عن سكان المناطق الريفية المنتشرون على نطاق واسع. وتشكل الرقعة الحضرية فى مصر حوالى 43%, يبرز من بينها محافظات حضرية بنسبة 100% مثل القاهرة, وأخرى تصل إلى حوالى 22.5% فقط مثل الشرقية. وكلما كانت المحافظات أكثر تحضرا, كلما نما عدد السكان المؤَّمن عليهم.


القدرة على الإدارة - من حيث توافر عمالة مؤهلة للقيام بأعمال الحسابات والخدمات المصرفية ومعالجة البيانات؛ إضافة إلى الأسواق ذات الصلة مثل الخدمات المالية وجهات التأمين الأخرى التى من الممكن أن تعمل على توفير أيدٍ عاملة مدربة بجانب الخدمات الاكتوارية والقانونية. ومما لا شك فيه أن الإدارة الجيدة لنظام الأمن الاجتماعى تمثل أحد العوامل أهم فى هذا الصدد.

وبالرغم من إنشاء الهيئة العامة للتأمين الصحى منذ ما يقرب من نصف قرن, نلاحظ أن معظم خبراتها برتكز علي تقديم الخدمة, إضافة إلى أنها بمرور الوقت قد خسرت العديد من الخبراء الذين لم يتم تأهيل آخرين في مجال شراء الخدمات الصحية. من هنا, يستلزم هذا الوضع بذل المزيد من الجهود والاستثمارات لتحسين وظائف الهيئة العامة للتأمين الصحى فيما يتعلق بإدارة عملية تمويلو شراء الخدمات الصحية – هذا إذا ما أرادت مصر الاستمرار فى تبنى نظام التأمين الصحى كخطة تمويلية لتحقيق التغطية الشاملة.

انتشار الفقر - من حيث حجم المساهمة الحكومية فى دعم اشتراكات ومساهمات الفقراء   

كلما ارتفع معدل انتشار الفقر بين المواطنين, كلما كان هناك احتياج إلى دعم اشتراكات هذه الفئات من جانب الحكومة, مما سيساهم فى زيادة الأعباء الملقاة على كاهل الميزانية العامة للدولة. ومن ثم, سوف يحتاج المجتمع بكامله, وليس الحكومة فقط, إلى وضع تعريف واضح لمستوى التضامن الذى ينوى المشاركة به من أجل دعم الخدمات المقدمة للفقراء, وما إذا كانت تلك الخدمات سوف يتم دعمها بشكل كلى أو جزئى للفئات التى تقف على حافة الفقر. وكلما ارتقى مستوى التضامن المجتمعى, كلما كان نظام التأمين أقدر على توفير الحماية المالية للشرائح الأكثر ضعفا (المهمشة) بالمجتمع. وبالرغم من قدرة الحكومة على فرض نظام للتضامن, إلا أنه من الأرجح ألا تؤتى هذه النوعية من التضامن الاجباري ثمارها فى دعم استمرارية نظام التأمين طالما لم يقتنع المجتمع بالأهمية المحورية لعامل التضامن الاجتماعى.

يبقى هناك عاملين مهمين لابد من وضعهما فى عين الاعتبار:

1) توافر شبكات تقديم خدمة جيدة وفعالة من حيث:

      أ) القدرة على تمهيد الطريق أمام المساهمين للوصول إلى الخدمة دون أى عوائق؛  
      ب) القدرة على توفير مجموعة كافية من مقدمى الخدمة بشكل يدعم خيارات المساهمين؛
      جــ) القدرة على خلق المناخ الذى يدعم روح التنافس الشريف والخلاق بين مقدمى الخدمة.

2) قدرة الحكومة على مراقبة الجودة وإدارة إجراءات الشكاوى والتظلمات

الخلاصة: تعتمد مقدرة مصر على تحقيق التغطية الشاملة من خلال التأمين الصحى الاجتماعى على:

 1) قدرتها على التعافى من الهزات الارتدادية التى تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير, واستعادتها لمعدلات النمو العالية التى سبقت الثورة, بجانب النهوض بمستوى الدخل الإجمالى القومى؛
2) قدرتها على خلق فرص تشغيل يتوافر فيها عامل الحماية من خلال ترسيخ ودعم أسس القطاع الرسمى؛
3) قدرتها على توسيع حدود المناطق الحضرية؛
4) قدرتها على مأسسة نظام فعال لإدارة التأمين الصحى؛
5) مستوى الفقر وإرادة المجتمع تجاه دعم الخدمات المقدمة للفقراء؛
6) امتلاك شبكة واسعة وجيدة لتقديم الخدمات؛
7) القدرة على التنظيم.


ولنا حديث آخر...



هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 4 نوفمبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.