الغرض من هذه الصفحة هونشر المعلومات والمناقشة العلمية للمهتمين بالصحة العامة في مصر وصلتها بالتنمية البشرية والعدالة الاجتماعية. وعند القيام بذلك، تلتزم هذه الصفحة أن تتخذ موقفا محايدا وتعرض وجهات النظر كافة على قدم المساواة. الاعمال المقدمة في هذه المدونة تم تقديمها بناء علي أراء عدة خبراء في مجالاتهم.

السبت، 18 فبراير 2012

هل التأمين الصحى الاجتماعى نظام الرعاية الصحية الأفضل لمصر؟

طريق مصر نحو تأمين صحى اجتماعى – 7

فى الوقت الذى تسير فيه مصر على نحو جيد نسبيا تجاه خفض معدلات وفيات الأمهات والأطفال, وبينما تواجه ميزانيتها ضغوطا بالغة لتلبية المتطلبات المتنوعة التى ينادى بها المواطنون, وفى ظل بروز العديد من أوجه القصور التى يعانى منها النظام الصحى والتى يقف وراءها فى الأساس التفتت الحاصل فى عمليتى تمويل وتقديم الخدمات الصحية, وفى الوقت الذى تم فيه طرح مسودة قانون التأمين الصحى الاجتماعى على الجمهور للمناقشة فى مناخ ما بعد الثورة والذى قد يسمح بإعادة النظر فى الاستراتيجيات التى تم تصميمها فى مرحلة سابقة من مراحل الإصلاح الصحى.. بعد كل ذلك, وقبل اتخاذ أى قرار بشأن القانون  المقترح, قد يفرض هذا السؤال نفسه: هل ينبغى على مصر أن تتمسك بالتأمين الصحى الاجتماعى كاستراتيجية أساسية لتمويل النظام الصحى, أم أن هناك بديل أفضل يمكن اللجوء إليه أم التأمين الصحي الاجتماعي هو البديل الافضل؟ ترى هل فات الأوان لأن نطرح مثل هذا السؤال؟

تهدف الحكومات فى العادة إلى تحقيق تغطية شاملة بالخدمات الصحية للشعوب التى تحكمها, والشعوب بدورها عادة ما تطالب بنظام صحى يلبى احتياجاتها من حيث العيش فى حالة صحية أفضل, وتوافر الحماية المالية, وسرعة الاستجابة والشعور بالكرامة أثناء الحصول على الرعاية الصحية. وفى سبيل تحقيق هذا فى مصر, تم بذل الكثير من الجهود المتواصلة لإصلاح القطاع الصحى منذ 1997, إلا أن هذه الجهود لم تكترث كثيرا بدمج الجمهور المستهدف فى عملية الإصلاح.

 وإذا ما نظرنا فى صفحات الماضى, فقد يكون من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن معظم المساعى التى حدثت خلال الستين سنة الماضية لإصلاح القطاع الصحى بهدف تحقيق التغطية الشاملة انتهت بتطبيق أنظمة مختلطة ومفتتة لم ترقْ أبدا إلى ما يصبو إليه الشارع المصرى. وخلال مطالعتى لمختلف التقارير المحلية والدولية ذات الصلة, دائما ما صادفت هذه المقولة التى تصف النظام الصحى المصرى على أنه "نظام صحى تعددى يقوم على عدد من أنظمة تقديم الخدمات العامة والخاصة الموازية, فضلا عن العديد من الوسطاء الماليين". وقد باءت كل محاولات الإصلاح فى التعامل مع مسألة التعددية بالفشل – وينتهى الأمر فى العادة بنظام أكثر تشرذما فيما يخص جانب تقديم الخدمة أو تمويلها أو كلاهما معا, مما يفضى فى نهاية المطاف إلى نظام دون هوية.

وتعود نشأة حالة التفتت التى يشهدها النظام إلى عقود مضت, ربما تصل إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضى, حين صدر وقتها تشريعان موازيان لوضع أسس برنامج العلاج على نفقة الدولة (قرار رئاسى رقم 1754 لعام 1959 متبوعا بقرار رئاسى آخر يحمل رقم 1069 لعام 1964)؛ والتأمين الصحى الاجتماعى (قانون 75 لعام 1963 والمرسوم الرئاسى 1209 لعام 1964). وربما كان الهدف من وراء هذه القرارات هو محاولة تلبية طموحات الشعب المصرى فى رعاية صحية أفضل, إضافة إلى ترجمة نصوص الدستور -التى تقضى بوضع مسئولية تقديم الخدمات الصحية (دستور 1956) والتأمين الاجتماعى (دستور 1964) بما فى ذلك حق الصحة للجميع على كاهل الدولة- إلى واقع ملموس. وتلى هذا العديد من القرارات الأخرى التى نتج جراءها مزيدا من التفتت فى جانب تقديم الخدمة, مما أدى بدوره إلى توالد عدد من أنظمة تقديم الخدمات العامة والحكومية إلى جانب الأنظمة الموازية التى تعمل بها وزارة الصحة.

وهنا يطرح سؤال نفسه: لماذا يحدث كل هذا؟ وما هو النظام الأمثل لمصر – نظام صحة وطني يعتمد في تمويله على العوائد الضريبية أم نظام تأمين صحى اجتماعى يعتمد علي تمويله علي مساهمات منتفعيه؟

يدعم الفريق الذى يميل إلى النظام الصحي الوطني المعتمد على الضرائب وجهة نظره بثلاث نقاط:
1) التأمين الصحى الاجتماعى يقلل من رغبة الشركات فى الاستعانة بقدر وافر من العمالة, وبالتالى يساهم فى الحد من فرص التشغيل ويروج لأسواق العمل غير الرسمى.
2) غياب التغطية بالخدمات الصحية عن مجموعات معينة من المواطنين خلال الفترة ما بين إرساء أسس نظام التأمين الصحى الاجتماعى وتحقيق التغطية الشاملة, وهى الفترة التى غالبا ما تطول.
3) التفاوت بين حزم الخدمات المقدمة وجودتها عبر مختلف المجتمعات السكانية.
على الجانب الآخر, يؤيد الفريق المساند للتأمين الصحى الاجتماعى رؤيته بنقطتين:
 1)  التأمين الصحى الاجتماعى يعد أحد أهم المصادر الإضافية لتمويل النظام الصحى.
2)  بإمكان نظام التأمين الصحى الاجتماعى تقديم خدمات ذات جودة عالية وبتكلفة أقل من تلك المقدمة من خلال النظام المبنى على الضرائب, عن طريق الفصل بين عملية شراء الخدمة وتقديمها, وتشجيع التعاقد الانتقائى مع مؤسسات تقديم الخدمة (بما فيها القطاع الخاص).

وقد أظهرت الدراسات المعنية بالبحث فى أثر هذه الأنظمة على النتائج الصحية, فى البلدان التى تعمل بها منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية, أن الأنظمة الصحية القائمة على التأمين الصحى الاجتماعى
1) لديها بعض الخصائص المعينة التى قد تجعلها أكثر كُلفة من النظام القائم على الضرائب؛
2) لا تؤدي أفضل لتحسين النتائج الصحية المتوقفة على الرعاية الطبية بالرغم من احتمالية الإنفاق الزائد؛
3) قد لا تكون الافضل فى ما يتعلق بالنتائج الصحية التى تستلزم برامج صحة عامة مجتمعية قوية؛
4) قد تزيد الوضع سوءا فيما يتعلق بتحفيز أسواق العمل غير الرسمى وعدم تشجيع العمالة.

وتثير النتائج التى خرجت بها مثل هذه الدراسة الأسئلة التالية:
 1)    هل من الممكن أن نقوم بتطبيق نظام قد يكلف الدولة المزيد من الأموال دون أن يكون لذلك فى المقابل أثر إيجابى على النتائج الصحية, وخصوصا فى الوقت الذى لا تتحمل فيه الميزانية العامة أى أعباء إضافية؟ هل سيساهم هذا فى دعم عنصر الفعالية؟ أم أن هذا النظام سيكون مصدر رئيسي من مصادر تمويل الرعاية الصحية؟ 
2)     هل سيؤدي تطبيق النظام الي أن يزيد من حجم العمالة غير الرسمية فى حين يعيش ثلثى هذا الحجم دون حماية مالية أو اجتماعية؟ هل سيساهم هذا فى دعم عنصر الحماية؟
      3)     هل هناك أى مخاطر محتملة على الإنجازات القومية فى مجال الصحة العامة جراء تطبيق هذا النظام؟ وبما أن أنظمة التأمين الصحى الاجتماعى تركز فى الأساس على الأفراد, أو حتى الأسر, هل سيفقدنا هذا تركيزنا المُنصب على المجتمع بأكمله من خلال برامج الصحة العامة المعتمدة فى تمويلها على النظام المبنى على الضرائب؟ هل سيساهم هذا فى الوصول إلى نتائج صحية أفضل؟
يقودنا كل هذا إلى طرح السؤال التالى, علاوة على سؤالين إضافيين؟


  هل يمكن لمصر أن تقوم بتطبيق نظام مبتكر ينتقى مميزات النظامين المشار إليهما ويتجنب فى ذات الوقت عيوبهما؟

1)  هل يمكننا تحويل نظام صحة وطني مبنى على تمويل من الضرائب تديره بشكل مباشر شبكة تقديم خدمات صحية حكومية إلى نموذج تعاقدى بين مشترى للخدمة ومقدمها؟
فى ضوء هذا السيناريو, تقوم المنظمات المشترية للخدمة بالتعاقد مع جهات أخرى لتقديمها بدلا من إدارتها بشكل مباشر. ويمكن تطبيق هذا عن طريق انتهاج نموذج التأمين الصحى الاجتماعى الذى يفصل بين مشترى الخدمة ومقدمها, حيث تقوم المنظمات الشرائية بالتعاقد مع مؤسسات أخرى للقيام بعملية تقديم الخدمة بما فيها مؤسسات القطاع الخاص و الاهلي, وهو ما قد يساهم فى تحقيق نتائج صحية أفضل مقابل نفقات أقل. ولكن إلى أى مدى يمكن أن يحدث هذا دون المخاطرة بتكامل وتماسك برامج الصحة العامة؟  وتعد تجربة مصر فى إنشاء صناديق صحة الأسرة, والتى تعتبر بمثابة مؤسسات اقليمية للتأمين الصحى الاجتماعى تتلخص وظيفتها فى شراء الخدمة, أحد المحاولات التى تمت فى هذا الصدد. وقد استمر التساؤل حول ملكية هذه المؤسسات فترة طويلة بين وزارة الصحة والهيئة العامة للتأمين الصحى, غير أن هذه الشراكة لم تنجح فى بناء مؤسسة قومية يمكنها متابعة مثل هذه الهيئات اللامركزية المسماة بصناديق صحة الأسرة. فضلا عن ذلك, قامت وزارة الصحة بإنشاء مؤسسات تقديم خدمة تحت اسم "الإدارات المحلية لمقدمى الخدمة" على مستوى الإدارات الصحية لضمان تدفق أموال الصناديق عبر مؤسستها, والتى تفككت فى وقت لاحق بعدما اتجه النظام الصحى المصرى بشكل أكبر نحو التأمين الصحى الاجتماعى.


2)  هل يمكن لنظام التأمين الصحى الاجتماعى المعتد أساسا علي المساهمات أن يزيد من اعتماده على العوائد الضريبية ويلتقط بعضا من وظائف النظام القائم على التمويل من الضرائب؟

يبدو أنه من الممكن تطبيق هذا أيضا. وقد لاحظنا أن الإصدار الأخير من قانون التأمين الصحى الاجتماعى يحتوى على بعض المواد التى تحاول زيادة الموارد الضريبية للتأمين من خلال مصادر أخرى بجانب ضرائب الرواتب, بالرغم من اقتراح تطبيق آلية الضرائب المخصصة Earmarked Taxes (الموقوفة لصالح التأمين). وقد أثارت هذه التجربة الجديدة حالة من الجدل الممتد قبل وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير, ومن الواضح أنها ستستمر لبعض الوقت. ومن الممكن أيضا أن يكون الربط بين التأمين الصحى وخدمات صحة الأسرة بمثابة القاعدة التى ستعمل على حماية وظائف الفحص الخاصة ببرامج الصحة العامة.

وفى النهاية, سوف يتعين على مجلس الشعب -بعد الدراسة المنهجية المتعمقة- أن يتخذ قرارا بشأن نظام الرعاية الصحية الذى سيتم العمل به وتمويله؛ مع الأخذ فى الاعتبار أن يتم اختيارالنظام الأقل تكلفة وأكثر قدرة على تحقيق النتائج الصحية المرجوة وتشجيع أسواق العمل والانتقال المرن عبر مراحل التغطية بالخدمات. بعد ذلك تقوم الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع القانون المتفق عليه فى حيز التنفيذ بالشكل الذى يرتقى إلى ما يتطلع إليه المواطن المصرى.

     ولنا حديث آخر...

     هذا المقال سبق نشره باللغة الانجليزية في 20 نوفمبر 2011 علي الرابط التالي وقد قام بترجمته الاخ العزيز محمد دوبان وله جزيل الشكر علي المجهود الرائع.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق